يتبوأ ابن رشد مكانة رفيعة في التراث العربي والفكر الإنساني, لم يصل إليها أحد غيره, سواء في بعد الصيت, أو عمق الأثر. وعلي الرغم من الجهود العلمية العديدة التي بذلت في العصر الحديث, في مصر وغيرها من الأقطار العربية والأجنبية, لدراسة ابن رشد ونشر أعماله, إلا أن جزءا كبيرا من مؤلفاته وتلخيصاته وشروحه الموسعة لكتب أرسطو وأفلاطون, في الطبيعيات والإلهيات والأخلاق والسياسة, لا تزال موزعة أو مشتتة في أنحاء العالم, في مخطوطاتها الأصلية وترجماتها إلي العبرية واللاتينية.
وقد آن الأوان لجمعها وتحقيقها تحقيقا علميا, بمناهج التحقيق الحديثة, وإعادة ما نقل منها الي العبرية واللاتينية في القرن الثالث عشر الي لغتها العربية, ردا لأصلها المفقود الذي ساهم في صنع النهضة الأوروبية. كما أنه يتعين جمع الدراسات التي كتبت عن ابن رشد في اللغات المختلفة, وأهمها الفرنسية والإنجليزية والأسبانية والألمانية, حتي تتكامل معرفتنا به وبعصره, ونقف علي مدي حضور هذا الفيلسوف العربي العظيم في الغرب.
والحق أنه ليس من السهل بلوغ هذه الغاية, لأن ابن رشد كان ضليعا في الفقه والطب واللغة والأدب والترجمة مثلما كان ضليعا في الفلسفة, لم ينقطع ليلة واحدة عن القراءة والتأمل إلا يوم وفاة والده, ويوم زواجه.
أما المناصب التي شغلها فيذكر منها قاضي قضاة قرطبة, وهو المنصب الذي شغله قبله والده وجده. ولم يكن ابن رشد أقل منهما حرصا علي مصالح العامة وتقديمها علي مصلحته الشخصية, بل كان أكثر منهما حرصا عليها, وعلي التمسك في نظر قضاياه بحرية إرادة المتخاصمين ومسئوليتهم إزاء كل تكليف, لأنه لا تكليف ما لم تتوافر الإرادة الحرة المستقلة, حتي يحاسب المرء بطبيعته الخاصة علي اختياره, ويصبح هناك جزاء بالثواب أو العقاب وهذه هي العدالة.
ولو استطعنا أن نراجع القضايا التي عرضت علي ابن رشد, والأحكام التي أصدرها في هذه القضايا, لأتيح لنا أن نتعرف علي شخصيته بأفضل من كل الوثائق الأخري, بما فيها مؤلفاته, لأنها تعد التطبيق العملي لممارسة العدل, ورفض الظلم.
ولكن لنبدأ من البداية. ولد ابن رشد في قرطبة في1126 التي كانت أعظم مدن الأندلس, وتلقي علوم زمانه وعلوم الأوائل علي يد علماء ومشايخ عصره. وكان ميله لعلوم القدماء, وإدمان النظر فيها, يفوق ميله لعلوم زمانه, لأنه كان يعتبره واجبا شرعيا. كما أن دور التراث العربي في تكوينه كان أكبر من دور ما عداه من الثقافات الأجنبية. فهو ابن الحضارة العربية الإسلامية, والامتداد الخلاق لها, قبل أن يكون ابنا للفلسفة اليونانية. وتوفي في مراكش في1198 بعد أن تجاوز السبعين.
وخلال هذا العمر تعرض ابن رشد لأكثر من محنة, أفدحها بالطبع اتهامه في جامع المسلمين بقرطبة, الذي أحرقت كتبه في ساحته, بأنه خالف عقائد المؤمنين, ومرق من الدين, دون أن يظهر عليه ما يضمره في نفسه, وكاد يسفك دمه حين تجرأ في إحدي محاوراته علي تكذيب ما جاء في بعض الآيات القرآنية.
ولولا أنه وجد بين معارفه وتلاميذه من يشفع له عند الخليفة المنصور, ويصحح أو ينفي ما في عنه مما أثار عليه غضب الخليفة ونقمته, لأعدم في عام1195 بتهمة الكفر وهو علي مشارف السبعين, رغم تسليمه المعروف بالعناية الإلهية, والتزامه بشعائر الدين وحدوده, ولما اقتصر الخطر الذي نزل به علي مجرد جفائه وإهانته في قصر الخليفة, وتحديد إقامته في داره في مراكش لا يبرحها, ثم نفيه بعيدا في اليسانة.
ويذكر عن الخليفة المنصور أنه كان في بداية حكمه شغوفا بالعلم والمعرفة, محبا للفلسفة. غير أنه تخلص من كل ما في مكتبة قصره من كتب العلوم والفلسفة لكي يرضي الفقهاء والعامة.
ومع هذا فقد كان ابن رشد بشهادة الكثيرين من المعاصرين والمختلطين به من أهل العلم والفضل والكمال, الذين أدركوا وحدة الأشياء الكلية والجزئية في الكون, واستطاعوا أن يجمعوا في كتبهم بين الحكمة والشريعة, أو بين العقل والنقل, أو بين الفلسفة والدين, لحقيقة واحدة وقيمة واحدة تخلو من التناقض أو التضاد.
ولأن الشرع يوجب النظر في الموجودات والماهيات بالعقل, استطاع ابن رشد أن يجمع أو يوفق بين الجانبين, كما وفق بين السببية والقضاء والقدر, علي أن يكون لكل منهما مجاله وآلياته, دون فصل أو قطيعة أو خلط أو تنافر.
ولعل أهم سمات هذا الجمع أو هذا التوفيق, في فلسفة ابن رشد, الأخذ بالتأويل عند الحاجة إليه, ولو خالف الإجماع, واحتكامه في كل الشئون إلي العقل والبراهين الفقهية, بما في ذلك الأدلة علي وجود الله, وخلود الروح, والإيمان الوطيد بضرورة المنطق.
وبهذا المنهج الذي يأخذ بالقوانين العلمية والأسباب الموضوعية, ويقدم التأويل الفلسفي علي التفسير الحرفي, وقياس الغائب علي الشاهد, دخل ابن رشد في مساجلات مع عدد كبير من الفلاسفة مثل الغزالي وابن سينا وابن طفيل وغيرهم.
وتمثل ردورد ابن رشد علي الغزالي صفحة مضيئة في الفلسفة العربية, رد بها الاعتبار للفلسفة والفلاسفة, بعد أن قام الغزالي بتكفيرهم في كتابه’ تهافت الفلاسفة’, وقبله في’ مقاصد الفلاسفة’, وابن رشد من المقدرين للسلف في حالة مطابقة أقوالهم لشروط البرهان, أو للحق, سواء كانوا من العرب أو غير العرب ولا يجد حرجا في الاستفادة منهم.
وفي حديثه عن أهل المدن يري ابن رشد انه اذا وجد فيها انسان بطال أو عاطل وجب اقصاؤه من المدينة حماية للمجتمع من شروره. وعلي من يشير بشن الحرب أو بالسلم أن يكون عارفا بحال الجند في بلده, وبمدي قوة من يحاربه, وذلك بعقد المقارنة بينه وبينها, وعليه أيضا أن يقدر تكاليف الحرب كما يجب أن يكون محيطا بالحروب السابقة: كيف كانت؟ وهل أفضت إلي الهزيمة, أم إلي النصر؟ والحاكم في نظر ابن رشد مسئول مسئولية كاملة عن كل ما يصدر عنه, وليس له عذر إن أخطأ في الحكم, أو انحرف عن الصواب بسبب جهله بالشرائع.
ومن أقواله المأثورة أن في كل إنسان نفحة إلهية, وأن من يشتغل بعلم التشريح, أو يدرس حركة الكواكب والأفلاك, فإنه يزداد إيمانا بالله. وهناك من يقول مثله أن من عرف جسم الإنسان عرف الحياة والكون.
وعند ابن رشد فان التجربة العملية, ويعني بها الممارسة, أجدي كثيرا من المعرفة النظرية التي لا غني عنها كمقدمة لكل من يطلب العلم.
وشرطه كذلك سلامة الصحة. وفي كتابه الطبي’ الكليات’ يرفع ابن رشد من القيم الأخلاقية في ممارسة مهنة الطب. ولا جدل ولا خطابة ولا تربية حقة بغير معرفة وثيقة بالقوانين العامة, والعلل والأصول. وليس هناك صلاح للمجتمع بغير امتلاكه للحرية في المعتقد والتعبير والعمل جميعا, لأنه بدون الحرية, كما أنه بدون العقل, وبدون مخطط سياسي, لا يكون هناك توجه للخير والفضيلة, وبعد عن الشر والرذيلة. ولكن الحرية في مفهوم ابن رشد ليست مطلقة أو بلا سقف, وإنما هي مقيدة بالشروط الموضوعية الخاصة والعامة, الداخلية والخارجية, التي ينتفي فيها التناقض بين الضرورة والحرية.
وينتمي ابن رشد إلي الفلاسفة المتواضعين الذين يعترفون بالآخر وبالاختلاف حين يكون هذا الآخر, أو هذا الاختلاف, بمنأي عن حضيض المقلدين وأغلاط الفلاسفة واللاهوتيين الذين لم يسلموا لابن رشد بوحدة العقل الإنساني, أو بمساواة المرأة للرجل, ليس فقط علي صعيد الفكر, بل وعلي صعيد القيادة السياسية.
وبالنسبة لطباعه وعاداته فقد كان ابن رشد متسامحا, حسن السيرة, لا يحفل بردائه, أو يكترث بجمع المال. عاش مكتفيا بذاته, محبا للإنصاف, كارها للاستبداد, لا يعنيه أن يكون قريبا من الخليفة أو من رجال البلاط, لأنه لا يجيد منادمة أحد, وفي الوقت نفسه لا يأمن جانب الحكام الذين ندد بسطوتهم.
وكان عزوفه عن صحبة أصحاب السلطة, ومخاطبته لهم بلا كلفة, من الأسباب التي أدت إلي محنته, في وسط تاريخي منقسم بين القديم والجديد, أو بين البداوة والتمدن, تدين فيه الفرق بعضها بعضا, ويوصف فيها المخالف بأنه مبتدع, يستباح دمه. ولئن كان من الصعب في بعض شروح ابن رشد لأرسطو التفريق بين النص الأصلي والشرح, فقد كان في تلخيصاته للآثار القديمة يضع نصب عينيه المعاني بأنواعها وخواصها الجوهرية والعرضية, اذا لم تكن مبينة بذاتها.
ذلك أنه كان يملك من دقة البصر ما يمكنه في تلخيصه لكتب أرسطو أن يفصل الأقاويل العلمية للمعلم الأول, التي تفصح عن مذهبه وحذف المذاهب الأخري التي لا تمت إليه, ولا نفع منها في فهم فلسفته.
وبغض النظر عن عدم فهم ابن رشد لمرامي كتاب الشعر لأرسطو, خاصة فيما يتعلق بالتراجيديا والكوميديا فيبقي له من هذا التلخيص للكتاب منهجه الذي حاول به تطبيق نظرية أرسطو في مبادئ البلاغة اليونانية علي الشعر العربي, اعتمادا علي أن للشعر في كل لغات العالم قوانين كلية لا تختلف بين الأمم, وحقائق أبدية تشترك فيها جميع الشعوب.